كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: الضمير في فمكث لسليمان.
وقيل: يحتمل أن يكون لسليمان وللهدهد، وفي الكلام حذف، فإن كان غير بعيد زمانًا، فالتقدير: فجاء سليمان، فسأله: ما غيبك؟ فقال: أحطت؛ وإن كان مكانًا، فالتقدير: فجاء فوقف مكانًا قريبًا من سليمان، فسأله: ما غيبك؟ وكان فيما روي قد علم بما أقسم عليه سليمان، فبادر إلى جوابه بما يسكن غيظه عليه، وهو أن غيبته كانت لأمر عظيم عرض له، فقال: {أحطت بما لم تحط به}، وفي هذا جسارة من لديه علم، لم يكن عند غيره، وتبجحه بذلك، وإبهام حتى تتشوف النفس إلى معرفة ذلك المبهم ما هو.
ومعنى الإحاطة هنا: أنه علم علمًا ليس عند نبي الله سليمان.
قال الزمخشري: ألهم الله الهدهد، فكافح سليمان بهذا الكلام، على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له في علمه، وتنبيهًا على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علمًا بما لم يحط به سليمان، لتتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه، ويكون لطفًا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة، والإحاطة بالشيء علمًا أن يعلم من جميع جهاته، لا يخفى منه معلوم، قالوا: وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أعلم منه. انتهى.
ولما أبهم في قوله: {بما لم تحط}، انتقل إلى ما هو أقل منه إبهامًا، وهو قوله: {وجئتك من سبأ بنبأ يقين}، إذ فيه إخبار بالمكان الذي جاء منه، وأنه له علم بخبر مستيقن له.
وقرأ الجمهور: من سبأ، مصروفًا، هذا وفي: {لقد كان لسبأ} وابن كثير، وأبو عمرو: بفتح الهمزة، غير مصروف فيهما، وقنبل من طريق النبال: بإسكانها فيهما.
فمن صرفه جعله اسمًا للحي أو الموضع أو للأب، كما في حديث فروة بن مسيك وغيره، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد، تيامن منهم ستة، وتشاءم أربعة والستة: حمير، وكندة، والأزد، وأشعر، وخثعم، وبجيلة؛ والأربعة: لخم، وجذام، وعاملة، وغسان» وكان سبأ رجلًا من قحطان اسمه عبد شمس وقيل: عامر، وسمي سبأ لأنه أول من سبا، ومن منعه الصرف جعله اسمًا للقبيلة أو البقعة، وأنشدوا على الصرف:
الواردون وتيم في ذرى سبأ ** قد عض أعناقهم جلد الجواميس

ومن سكن الهمزة، فلتوالي الحركات فيمن منع الصرف، وإجراء للوصل مجرى الوقف.
وقال مكي: الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي. انتهى.
وقرأ الأعمش: من سبأ، بكسر الهمزة من غير تنوين، حكاها عنه ابن خالويه وابن عطية، ويبعد توجيهها.
وقرأ ابن كثير في رواية: من سبأ، بتنوين الباء على وزن رحى، جعله مقصورًا مصروفًا.
وذكر أبو معاذ أنه قرأ من سبأ: بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة، بناه على فعلى، فامتنع الصرف للتأنيث اللازم.
وروى ابن حبيب، عن اليزيدي: من سبأ، بألف ساكنة، كقولهم: تفرقوا أيدي سبا.
وقرأت فرقة: بنبأ، بألف عوض الهمزة، وكأنها قراءة من قرأ: لسبا، بالألف، لتتوازن الكلمتان، كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمز المكسور والتنوين.
وقال في التحرير: إن هذا النوع في علم البديع يسمى بالترديد، وفي كتاب التفريع بفنون البديع.
إن الترديد رد أعجاز البيوت على صدورها، أو رد كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني، ويسمى أيضًا التصدير، فمثال الأول قوله:
سريع إلى ابن العم يجبر كسره ** وليس إلى داعي الخنا بسريع

ومثال الثاني قوله:
والليالي إذا نأيتم طوال ** والليالي إذا دنوتم قصار

وذكر أن مثل: {من سبأ بنبأ}، يسمى تجنيس التصريف، قال: وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف، ومنه قوله تعالى: {ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون}، وما ورد في الحديث: «الخيل معقود في نواصيها الخير» وقال الشاعر:
لله ما صنعت بنا ** تلك المعاجر والمحاجر

وقال الزمخشري: وقوله: {من سبأ بنبأ}، من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ، بشرط أن يجيء مطبوعًا، أو بصيغة عالم بجوهر الكلام، يحفظ معه صحة المعنى وسداده.
ولقد جاء ههنا زائدًا على الصحة، فحسن وبدع لفظًا ومعنى.
ألا ترى لو وضع مكان بنبأ بخبر لكان المعنى صحيحًا؟ وهو كما جاء أصح، لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال. انتهى.
والزيادة التي أشار إليها هي أن النبأ لا يكون إلا الخبر الذي له شأن، ولفظ الخبر مطلق، ينطلق على ما له شأن وما ليس له شأن.
ولما أبهم الهدهد أولًا، ثم أبهم ثانيًا دون الإبهام، صرح بما كان أبهمه فقال: {إني وجدت امرأة تملكهم}.
ولا يدل قوله: {تملكهم} على جواز أن تكون المرأة ملكة، لأن ذلك كان من فعل قوم بلقيس، وهم كفار، فلا حجة في ذلك.
وفي صحيح البخاري، من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» ونقل عن محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح عنه.
ونقل عن أبي حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه، لا على الإطلاق، ولا أن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم، وإنما ذلك على سبيل التحكم والاستنابة في القضية الواحدة.
ومعنى وجدت هنا: أصبت، والضمير في تملكهم عائد على سبأ، إن كان أريد القبيلة، وإن أريد الموضع، فهو على حذف، أي وجئتك من أهل سبأ.
والمرأة بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك اليمن كلها، وقد ولد له أربعون ملكًا، ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت على الملك، وكانت هي وقومها مجوسًا يعبدون الشمس.
واختلف في اسم أبيها اختلافًا كثيرًا.
قيل: وكانت أمها جنية تسمى ريحانة بنت السكن، تزوجها أبوها، إذ كان من عظمه لم ير أن يتزوج أحدًا من ملوك زمانه، فولدت له بلقيس، وقد طولوا في قصصها بما لم يثبت في القرآن، ولا الحديث الصحيح.
وبدأ الهدهد بالإخبار عن ملكها، وأنها {أوتيت من كل شيء}، وهذا على سبيل المبالغة، والمعنى: من كل شيء احتاجت إليه، أو من كل شيء في أرضها.
وبين قول الهدهد ذلك، وبين قول سليمان: {وأوتينا من كل شيء} فرق، وذلك أن سليمان عطف على قوله: {علمنا منطق الطير}، وهو معجزة، فيرجع أولًا إلى ما أوتي من النبوة والحكمة وأسباب الدين، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا، وعطف الهدهد على الملك، فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها.
{ولها عرش عظيم}، قال ابن زيد: هو مجلسها.
وقال سفيان: هو كرسيها، وكان مرصعًا بالجواهر، وعليه سبعة أبواب.
وذكروا من وصف عرشها أشياء، الله هو العالم بحقيقة ذلك، واستعظام الهدهد عرشها، إما لاستصغار حالها أن يكون لها مثل هذا العرش، وإما لأن سليمان لم يكن له مثله، وإن كان عظيم المملكة في كل شيء، لأنه قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هو تحت طاعته.
ولما كان سليمان قد آتاه الله من كل شيء، وكان له عرش عظيم، أخبره بهذا النبأ العظيم، حيث كان في الدنيا من يشاركه فيما يقرب من ذلك.
ولم يلتفت سليمان لذلك، إذ كان معرضًا عن أمور الدنيا.
فانتقل الهدهد إلى الإخبار إلى ما يتعلق بأمور الدين، وما أحسن انتقالات هذه الأخبار بعد تهدد الهدهد وعلمه بذلك، أخبر أولًا باطلاعه على ما لم يطلع عليه سليمان، تحصنًا من العقوبة، بزينة العلم الذي حصل له، فتشوف السامع إلى علم ذلك.
ثم أخبرنا ثانيًا يتعلق ذلك العلم، وهو أنه من سبأ، وأنه أمر متيقن لا شك فيه، فزاد تشوف السامع إلى سماع ذلك النبأ.
ثم أخبر ثالثًا عن الملك الذي أوتيته امرأة، وكان سليمان عليه السلام قد سأل الله أن يؤتيه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده.
ثم أخبر رابعًا ما ظاهره الإشتراك بينه وبين هذه المرأة التي ليس من شأنها ولا شأن النساء أن تملك فحول الرجال، وهو قوله: {وأوتيت من كل شيء}، وقوله: {ولها عرش عظيم}، وكان سليمان له بساط قد صنع له، وكان عظيمًا.
ولما لم يتأثر سليمان للإخبار بهذا كله، إذ هو أمر دنياوي، أخبره خامسًا بما يهزه لطلب هذه الملكة، ودعائها إلى الإيمان، وإفراده بالعبادة فقال: {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله}، وقد تقدم القول: إنهم كانوا مجوسًا يعبدون الأنوار، وهو قول الحسن.
وقيل: كانوا زنادقة.
وهذه الإخبارات من الهدهد كانت على سبيل الاعتذار عن غيبته عن سليمان، وعرف أن مقصد سليمان الدعاء إلى توحيد الله والإيمان به، فكان ذلك عذرًا واضحًا أزال عنه العقوبة التي كان سليمان قد توعده بها.
وقام ذلك الإخبار مقام الإيقان بالسلطان المبين، إذ كان في غيبته مصلحة لإعلام سليمان بما كان خافيًا عنه، ومآله إلى إيمان الملكة وقومها.
وخفي ملك هذه المرأة ومكانها على سليمان، وإن كانت المسافة بينهما قريبة، كما خفي ملك يوسف على يعقوب، وذلك لأمر أراده الله تعالى.
قال الزمخشري: ومن نوكي القصاص من يقف على قوله: {ولها عرش عظيم}، وجدتها يريد أمر عظيم، إن وجدتها فر من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيمة وهي نسخ كتاب الله. انتهى.
وقال أيضًا فإن قلت: من أين للهدهد الهدى إلى معرفة الله ووجوب السجود له، وإنكار السجود للشمس، وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟ قلت: لا يبعد أن يلهمه الله ذلك، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات المعارف اللطيفة الت لا تكاد العقلاء يهتدون لها.
ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان خصوصًا في زمان نبي سخرت له الطيور وعلم منطقها، وجعل ذلك معجزة له. انتهى.
وأسند التزيين إلى الشيطان، إذ كان هو المتسبب في ذلك بأقدار الله تعالى.
{فصدهم عن السبيل}، أي الشيطان، أو تزيينه عن السبيل وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة.
{فهم لا يهتدون}، أي إلى الحق.
وقرأ ابن عباس، وأبو جعفر، والزهري، والسلمي، والحسن، وحميد، والكسائي: ألا، بتخفيف لام الألف، فعلى هذا له أن يقف على: {فهم لا يهتدون}، ويبتدىء على: {ألا يسجدوا}.
قال الزمخشري: وإن شاء وقف على ألا يا، ثم ابتدأ اسجدوا، وباقي السبعة: بتشديدها، وعلى هذا يصل قوله: {فهم لا يهتدون} بقوله: {ألا يسجدوا}.
وقال الزمخشري: وفي حرف عبد الله، وهي قراءة الأعمش: هلا وهلا، بقلب الهمزتين هاء، وعن عبد الله: هلا يسجدون، بمعنى: ألا تسجدون، على الخطاب.
وفي قراءة أبي: ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون. انتهى.
وقال بن عطية: وقرأ الأعمش: هلا يسجدون؛ وفي حرف عبد الله: ألا هل تسجدون، بالتاء، وفي قراءة أبي: ألا تسجدون، بالتاء أيضًا؛ فأما قراءة من أثبت النون في يسجدون، وقرأ بالتاء أو الياء، فتخريجها واضح.
وأما قراءة باقي السبعة فخرجت على أن قوله: {ألا يسجدوا} في موضع نصب، على أن يكون بدلًا من قوله: {أعمالهم}، أي فزين لهم الشيطان أن لا يسجدوا.
وما بين المبدل منه والبدل معترض، أو في موضع جر، على أن يكون بدلًا من السبيل، أي نصدهم عن أن لا يسجدوا.